كان هذا المصاب صحيح البنية قوي الأعصاب جميل الصورة لطيف الشكل ما رآه فارغ القلب إلا صبا ولا سمع بذكره بعيد إلا طار إليه شوقاً نشاء في العالم روضة ودار به أهله يحفظونه من العداء ويدفعون عنه الوشاة والرقباء وقد مات في حبه جملة من العشاق الذين خاطروا في وصاله بالأرواح والأموال وكلما وصل إليه واحد سحره برقة ألفاظه وعذوبة كلامه وسلب عقله ببهجة يحار الطرف فيها وعزة لا يشاركه فيها مشارك وهو هو غزال في الخفة غصن في اللين بدر في البهجة جنة في المنظر تمر عليه الدهور فتزيده حسناً وتتوالى عليه العشاق فتزداد هياماً وأهله فرحون بهذا البديع الفريد والطالع السعيد يعشقون الموت في حياته وقد اتفقوا على توحيد كلمتهم في حفظه وجمع شتاتهم في رحابه وصرف حياتهم الطيبة في بقائه في الوجود معززاً بأهله مؤيداً بعشائره حتى لا تمد إليه يد عدو ولا يوجه إليه فكر محتال ولا يقرب منه مغتال.
وبينما هو يتيه بحسنه ويدل بجماله صحبه أحد المضلين واستماله بنفاق تميل إليه النفوس وتملق يخجل فظن أهله أن هذا المضل من الأتقياء الذين لا يعرفون اللهو ولا يميلون إلى المفاسد وسلموه جنة حياتهم وروضة ثروتهم فدار به في الأسواق والطرقات وعرضه للعشاق تقبله جهاراً وتسلبه حلى أصابعه وزينة صدره وقد علموا أن الجمال يأسر الجميل فأحضروا من الغواني من تعارض الشمس بحسنها وتكسف البدر بنورها فدرنَ في سبيل بيته يغازلن أهله بنغمات تحرك الجبان ومؤانسة تستميل الشجعان حتى سلبن العقول وحولن الطباع وبغضن المحبوب إليهم وإلهينَ كل ذي لب عن أفكاره وأنسين كل مدبر ما كان يتصوره من نوابغ الحكم وغريب الأمثال وجعلن الجمال مبذولاً بلا قيمة والوصال ممنوحاً بلا مقدمات وذاك الصاحب مكب على هواه مغرم يجمع الغرباء واستعداء الأعداء ومصاحبة الأشقياء ومسامرة الأغبياء ينام ومحبوه قلق ويضحك ومعشوقه كئيب إلا أن هذا الغزال الطاهر العرض لما رأى أهله أهدروه وأهملوه واشتغلوا بالغواني وولعوا بخدمة الأجانب وانكبوا على الملاهي يتتبعون آثارها استسلم للقضاء وترك النفار والتحمس ومال مع أغراض هذا الصاحب وسار معه في طريق لا يرى فيه أحداً من أهله فما هي إلا رشفة كأس حتى اصفر وجهه وارتخت أعضاءه وذهبت بهجته فسلم جسمه الشريف إلى الفرش يتململ عليه ففطن له واحد من أهله وزاره في خربة لم يجد فيها غير شبح يعلل نفسه
بالأماني ويصعد الزفرات وقد برزت عظام وجهه وغارت عيناه وتشوه وجهه وتبدلت محاسنه بقبائح تنفر منها الطباع فبكى وانتحب وقال:
أي حياتي أي جنتي أي نزهتي أي مطلع عزي ما الذي أصابك أين جمالك البديع أين محياك الزاهي أين حسنك الذي أفنى الكثير من العشاق أين صحتك التي أشابت الدهور وهي في عنفوان الشباب أين قوتك التي أسرت بها الأشباح أين رقتك التي جذبت بها الأرواح أين ما كان عليك من الحلة والزينة أين تاجك الذي ما لبسه إنسان إلا افتخر على الوجود أي نفس تراك في هذه الخربة ولا تفيض حزناً أي قلب يرى وهناك ولا يتقطر كمداً أي عين ترى تشويه ذاتك ولا تطمس أسفاً زحزح الهم عني بجواب يبين الحقيقة لعلي أتدارك من أمرك ما بقي وأحفظ من صحتك ما عساك أن تنشق به نسيم الحياة.
فتنفس المصاب تنفس الضعيف ورمقه بعين لا يكاد يتحرك جفنها وقال بصوت خفي (لا يعز عليك جسم أمرضه أهله) فإنكم تركتموني لصاحبي يدور بي أينما دار فعرضني لمن لم أعرف طبعه ولا عادته ولا لغته ووكل بي من يغرني ويسلك بي سبل الغواية فلم أجد بداً من الموافقة ودرت معهم في أماكن اللهو حتى أصبت بالداء الإفرنجي فلم أعبأ به في أول الأمر وتركت نفسي وكتمت خبري فإني لم أجد أحداً من أهلي حولي ولم أعلم أن الداء سرى في دمي وعروقي وتمكن من عظامي وأعصابي حتى لم يترك عضواً من أعضائي إلا نشب فيه فلما ضعفت قواي وتعطلت حواسي سقطت في هذه الخربة أقلب جسمي على الأحجار وأرمق بعيني آثار أهلي وقصورهم المتهدمة ولكن لا أستطيع حراكاً حتى كنت أغالب هذا الأفرنجي وأصل إلى مقري ومنشأ عزي فأعالج نفسي بحشائش ترتبي وعقاقير أرضي من يد أطباء بلادي وصيادلة دياري فإن قويت عليّ فاحملني وإن تأذيت من صديدي فاجمع إليّ قومي لعلي أجد فيهم من يقبل على جيفتي ويسعى في نجاتي فقام هذا الزائر يضرب الكف بالكف أسفاً ويعض أنامله غيظاً وأسرع إلى الحي ونادى. أيتها القبور الصامتة انشقي وانفرجي وابعثي من فيك من الأموات فقد أتت الطامة الكبرى وانكدرت نجوم النشور. ويا أيتها الأرواح الخامدة هلمي إلى أجسامك البالية فأقيميها من موتتها وابعثيها في الوجود لتنظر هذا الذي تشقى بعدمه وتحاسب عليه.
فلم يكن إلا كلمح البصر حتى ملئ الفضاء بأناس لا عداد لهم يقدمهم طبيب بارع قد
استصحب معه جملة من الأطباء وساروا إلى تلك الجيفة واحتاطوا بها يقلبونها عن اليمين وعن الشمال ويفرعون صدرها ويجسون نبضها حتى وقفوا على دائها وعلموا أصل مصابها فحكموا على صاحبها بانتزاحه عنها وعدم قربه منها فوضوا أمر هذا المصاب إلى الطبيب البارع يتولى علاجه ويداوي جراحه فطلب من بقية الأطباء أن يرافقوه في هذه المعالجة ليتقوى بأفكارهم على ما يصلح به هذا الجسد الشريف وبعد تبادل الأفكار بينهم قرّ الرأي على أنهم يركبون له دواء يوقف سري الداء الآن حيث تحكم وتمكن بعد ذلك يتداولون فيما يزيل المرض ويعيد الصحة فتعلق بهم أهله يسألونهم الإسراع في معالجته والاجتهاد في دفع مصابه فترضتهم الأطباء وسألتهم الهدوء والسكون ومساعدتهم في خدمته وتنظيف محله وتطهير أعضائه وحفظه بحيث لا يتركون الغرباء يتولون خدمته ولا يمكنون الأجانب من الوصول إليه خوفاً من إفسادهم العلاج وسعيهم في إتلافه أكثر مما صنعوه به فكثر صياح أهله وعلت أصواتهم بالعويل ووضعوا أيديهم على أكبادهم وتصبروا وابتدأوا يعملون بمشورة الأطباء ويبذلون الجهد في وقايته وصيانته من كل من كان من جنس مصيبيه. قال الراوي وينما أنا أبكي وأنوح مع هؤلاء المساكين وإذا بالمؤذن ينادي حي على الفلاح فقمت لأقضي الفرض وأعود لمباشرة الخدمة مع إخواني إذ لم أرَ قبل هذا اجتماع مجلس طبي على مصاب بالإفرنجي.
No comments:
Post a Comment